المقالات

الأحد، 14 أبريل 2013

مشروع "التغيير العربي" الذي إنتظره الشعب طويلا بين قطر والاخوان ...



كثيرة هي الاتهامات التي راجت خلال الاشهر الأخيرة والموجهة لدولة قطر، بتبني مشروع سري لتغيير الأنظمة العربية، باستخدام تقنيات الاعلام الحديث وسلاح قناة (الجزيرة) الفتاك.

وقد بقيت تلك (الاتهامات) مجرد (اتهامات) لأنها لم تعزز بالأدلة (الجرمية) الكافية لتحويل الاتهام الى حقيقة، والقاعدة الفقهية والقانونية تقول ان المتهم يبقى بريئاً حتى تثبت إدانته.
لكن الصحفي العربي السعودي، عبد العزيز الخميس، الذي سبق له ان عمل في صحيفة (الشرق الأوسط)، ورأس تحرير مجلة (المجلة) السعوديتين، له رأي اخر.
فالخميس يقدم ادلته الملموسة على تلك الاتهامات، مؤكداً ضلوع التنظيم العالمي لحركة الاخوان المسلمين في هذا المشروع الخطير.
ويبدو السياق الذي يتحدث عنه (الخميس) معقولاً الى حد كبير، ومنسجماً مع المساعي الأمريكية المبذولة منذ أكثر من عقد لـ (ترويض) حركة الاخوان المسلمين و (تشذيب) أفكارها وتقديمها بديلاً مناسباً لأنظمة الحكم العربية السائدة، استناداً الى جملة من الوقائع والحقائق.
وإذ تنشر (وجهات نظر) مقالة الكاتب السعودي، عبدالعزيز الخميس، فإنها تؤكد انها لاتتبنى ، بالضرورة، الأفكار الواردة فيها، وانما هي تعرضها، كـ (وجهة نظر) مهمة ينبغي دراستها والتفكير فيها بعناية فائقة.


..........

دور مشروع "مستقبل التغيير" القطري الأميركي في إشعال الثورات العربية



  
عبدالعزيز الخميس
في مطلع فبراير/شباط عام 2006 عقد في الدوحة "منتدى المستقبل" وسط اهتمام كبير من قبل الحكومتين القطرية والأميركية، وكان كاتب هذا الموضوع أحد المدعوين له.
في إحدى الردهات خرج الدكتور عبدالعزيز الدخيل، الاقتصادي السعودي المعروف بقوميته العربية المفرطة غاضباً. وفي توقف سريع للسلام عليه قال الدخيل أنه ذاهب ليلملم أغراضه من غرفته في الفندق وسيعود للرياض على أول طائرة.
ما هو السبب والمؤتمر في أول يوم له؟
كان رد الدخيل صارماً: هذا المنتدى ليس سوى حلقة نقاش وإعداد للمؤامرات من قبل المخابرات الأميركية.
لم يفت هذا التعليق على كاتب هذا السطور، وتم تعريضه للتمحيص في كل الحلقات النقاشية التي تم حضورها، حيث تبين أن الدخيل كانت لديه حاسة شم عالية، وأن هناك مشروعاً قطرياً أميركياً يعد على هدوء، قوامه التحفيز على الإصلاحات الديمقراطية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني.
في غرف مغلقة كانت كلمات مثل الديمقراطية، التغيير الواجب، التحفيز، التدريب، والعمل على دعم الراغبين في تغيير الانظمة، كلمات أصبحت من كثرة تداولها في أيام انعقاد المؤتمر أمراً لا يلفت الانتباه قدر حضه على التفكير عن كيفية تطبيق كل هذه المسميات الجميلة لدى أي راغب في الإصلاح.
كان بيل كلينتون وابنته يتنقلان من غرفة إلى أخرى حاملين معهما عبارات المجاملة والحض على الخروج بأفكار جيدة ومنتجة. وفي منتديات تبعت ذلك المنتدى بدت كونداليزا رايس أكثر رشاقة وهي تضع يديها على طاولات فندق الريتز القطري متسائلة: ماذا بعد؟
تطورت الأفكار سريعاً، وبدأ العمل جدياً، وإن كانت مهمة التغيير انحصرت في طرفين هما الولايات المتحدة وقطر. وبين لقاءات مستمرة وممانعة من قبل دول متعددة ومقاومة شرسة من دول أخرى، وضح أن هناك مشروعا للتغيير تمت صياغته في لقاءات متعددة ضمن "منتدى المستقبل" أو خارجه، بحضور مسؤولين ونشطاء لدول متعددة، أو فقط بحضور مسؤولين قطريين واميركيين.
بعد جهد طويل خرج ما يطلق عليه "مشروع مستقبل التغيير في العالم العربي" وتم توزيع المهام: قطر تعمل على جانب الاسلاميين، وأميركا على جانب أخر وهو الجانب المنفتح من الشباب الليبراليين.
هذا التعاون أثمر كثيرا في تحفيز الشباب على قيادة التغيير بإستعمال ادوات الإعلام الحديث والاتصال الالكتروني من فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها.
المهمة القطرية
بعد هذا النجاح الساحق لحركة 6 ابريل في التحشيد وقيادة التغيير في مصر، التفت الجميع إلى قوة الشباب الذي يبدو قريبا من الليبرالية في قيادة الثورات. لكن معظمهم لم يلتفت إلى جانب أخر، وهو أن الإخوان المسلمين الذين التحقوا جسديا بالثورة المصرية متأخرين، لم يكونوا كذلك في الواقع، بل أنهم كانوا قد بدأوا نشاطهم الشبابي للتغيير والتحشيد منذ عام 2006 وعبر مشاريع بالتضامن والتمويل القطري كما سيبدو لاحقا.
تضمنت المهمة القطرية مشروعين؛ الأول هو مشروع "النهضة" يديره القطري الدكتور جاسم سلطان، وهو رجل محنك ملتزم بتعاليم الإخوان المسلمين ومطبق لها.  
لكن ما يثير الإعجاب في شخصه هو قدرته على الإستقلال وعدم التبعية في التنفيذ، وإختراعه للخط القطري الإخواني الذي قد لا يصطدم مع خط الجماعة في المقطم، لكنه يستقل بل ويبدع في التنفيذ.
المشروع الثاني الذي تولتها المهمة القطرية هو "أكاديمية التغيير" عبر زوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوي وهو منفذ مهم لما ينظر له ويضعه جاسم سلطان من خطوط فكرية ومنهج للتغيير والنهضة.
مشروع النهضة
ليست جديدة هي مشاريع النهضة، لكن الجديد هو مشاريع التثوير. 
بدأ الدكتور جاسم سلطان نشاطاته منذ وقت طويل، وهو إخواني قطري عرف عنه اهتمامه بالفكر النهضوي. لكن ما يعرف عنه سياسيا انه أصبح ضمن الالة السياسية القطرية بعد ان كان مستقلا في نشاطه الإخواني.

جاسم محمد سلطان
في عام 1999 حل الإخوان مجموعتهم ضمن اتفاق رضيت الدولة القطرية أن يكونوا ضمن نشاطاتها في مجالات متعددة. وبالطبع نشاطهم المحلي أصبح محدودا، لكن تم استعمال الحركة خارجيا كأدوات اتصال للحكومة القطرية في دول متعددة وضمن الاتفاق الذي تم في منتديات المستقبل.
لعب على رأس هذه الأدوات الدكتور جاسم سلطان دوراً مهماً دعاه لإنشاء مشروع "النهضة" والذي يهدف كما يقول إلى فك مشكلة اليأس والمساعدة على تحديد الأدوار وأولوياتها.
ويطالب سلطان الشباب بأن يكونوا مشروعاً نهضويا ًاو يصنعوا مشروعاً او يدعموا مشروعاً.
ويعتبر أن من أولويات المرحلة هي الفهم لأفكار النهضة الكبرى والتبسيط والتمرير للشباب.
ويمكننا رؤية أن مشروع النهضة يعتبر المنظر والمرجع لـ"أكاديمية التغيير" التي سنتطرق لها لاحقا، وكلاهما يكملان بعضا في مسيرة تحريك الشباب ودفعهم للتغيير والإحتجاج.
ويحاول المشروع الإخواني تفتيت ثوابت الأنظمة العربية، ولعل أهمها نقده لما يسميه سلسلة الخديعات في الاستقرار، الثقة، الرموز، الصورة التاريخية، والتضحية.
ويكيل المشروع اتهامات كثيرة وكبيرة للأنظمة دون ان يسميها، ويتمتع بحرية كبيرة في قطر حيث يعمل على التحشيد والتنفير ضد (ومن) الأنظمة.
الملاحظ أن مشروع النهضة يقبل لدولة مثل تركيا أو اليونان أو غيرها في ألا تضحي بمصالحها الخاصة من أجل مصالح الآخرين، لكنه يلوم دولاً عربية أن فعلت ما فعلته تركيا واليونان في مسائل متعلقة بالعلاقات الدولية كموضوع أساطيل الحرية أو حصار غزة.
في الموضوع المصري، يطالب المشروع عبر مشرعه جاسم سلطان المصريين التحشد لتحديد رئاسة الجمهورية ثم التحشد لنيل أكبر الحصص في البرلمان المقبل. ثم التحشد لوقف الانهيار الاقتصادي، ثم التحشد لوقف الانهيار الامني، وبعدها التحشد لوقف انهيار الوحدة الوطنية، لكنه لا يضع أولويات ونقطة بدء ثم تسلسل للحشود المقررة.
وفي سبيل خلق قادة يفهمون جيداً مشروع النهضة الممول من قطر بالتعاون من الإخوان، يتم تنظيم تدريبات وبرامج إعداد عبر الانترنت، تتضمن تعريف المتدربين بما هو المجتمع الناهض، وأطوار حركة النهضة ومسارات النهضة، ومتطلبات النهضة ومن اين تبدأ النهضة وما هي مفاتيح الأمل.
ويمكن معرفة كيف نجح مشروع النهضة في المساعدة في الثورة المصرية بمعرفة ان عبدالرحمن المنصور وهو من انشأ مجموعة "كلنا خالد سعيد" وأنه هو الذي دعا ليوم 25 يناير ليكون يوما للثورة المصرية، وأن الناشط وائل غنيم كان المسئول التقني في الصفحة وقد عارض منصور في اختيار ذلك اليوم ثم قبل به بعد ان اقنعه غنيم.
عبدالرحمن المنصور
برامج متعددة يقوم بها مشروع النهضة الإخواني بالتعاون مع "أكاديمية التغيير" وتتضمن تعاون مؤسسات إخوانية مثل "تنمية للدراسات والاستشارات".
ويستعمل الإخوان في تسهيل عملياتهم المالية بنك قطر الإسلامي حيث يتم تحويل الرسوم لحساب بنكي لـ"أكاديمية التغيير" وهي التي تتولى تنظيم التدريب إدارياً.
وينتظر ان يبدأ الإخوان النهضويون دورات مكثفة جديدة في نوفمبر المقبل، كما يملكون مشاريع مختلفة ليست فقط للكبار بل أيضا للصغار كمؤسسة تدريب المراهقين والتي تبدأ من عمر 12 الى 15 عاماً. ويساند ذلك مشروع بوابة الشباب للعمل النهضوي.
الملاحظ هو ان الإخوان في قطر كانوا يستخدمون المخيمات الدعوية في نشاطهم حيث ينصبونها في صحراء قطر ويجتذبون من أماكن عديدة أنصارهم ومريديهم لكنهم حين فهموا جيداً قوة الانترنت، قاموا بنصب مخيماتهم على شبكة الانترنت ومدوا برامجهم الدعوية والتنظيمية.
من جانب آخر، يحض القائمون على المشروع أنصارهم ومتدربيهم على استعمال أدوات إعلامية معينة مثل، شبكة الجزيرة، وموقع إسلام أون لاين، وموقع الجزيرة توك، وقناة دليل الفضائية.
أكاديمية التغيير
منذ بدء ربيع الثورات العربية وعدد من المحللين لا ينفكون عن الإشارة إلى الدور القطري في جعل جو هذا الربيع أكثر سخونة عبر قناة الجزيرة وملحقاتها.
كانت الجزيرة تحرض وانقلب مذيعوها إلى مقاتلين يخوضون صراعات ويقودون الجماهير وينتابهم الرعب حينما تقل أعداد المتظاهرين ثم يكادون يرقصون فرحا وهم يرون الآلاف تزحف إلى ميدان التحرير.

 كانت الجزيرة تتشدق بأنها هي من ساهمت في تنظيم الجماهير وتشجيعهم ولولا الله ثم إدارتها للأزمة لانفلت الوضع وعادت الجماهير محسورة الرؤوس إلى منازلها دون أن يحدث التغيير المطلوب.
لكن هل كانت الجزيرة فقط هي من يفعل شيئا في الساحة الثورية؟ الحقيقة هي أن هناك الكثير من التقارير والاتهامات التي تشير إلى أن للقطريين أدوات أخرى ويشيرون إلى دور منظمة مركزها في بريطانيا وإسمها "أكاديمية التغيير".
ما هي "أكاديمية التغيير" ولماذا تتهم بأنها من أجج الوضع؟


شعار أكاديمية التغيير

خلال إحدى حلقات النقاش في جامعة بريطانية وكانت الحلقة مغلقة على باحثين ومتخصصين، تساءل خبير بريطاني: لماذا لم يسلط الإعلام العربي الأنظار على الجهد القطري في الثورات العربية بشكل كاف؟
طفق أحدى الاساتذة من أصل عربي في بيان مدى قوة قناة الجزيرة وسحرها الذي نجح في المساعدة على إسقاط أنظمة عديدة.
في طرف الطاولة تمتم خبير ويلزي أنه ليست فقط الجزيرة من قام بكل هذا الفعل، بل هناك قوى أخرى لعل أهمها فساد الأنظمة وثورة الجماهير واستعدادهم للتضحية، ثم أشار إلى أن القطريين لم يستعملوا فقط الجزيرة بل قاموا بإدارة المعركة عملياً.
ووسط علامات الترحيب بأن يستمر في الحديث، أشار الخبير إلى أن هناك مركزاً في بريطانيا أسمه "أكاديمية التغيير"، وأن هذا المركز محل الرقابة والعناية البحثية من قبل العديد من المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط.
بدأ سيل منهمر من الأسئلة لهذا الخبير عن هذه الأكاديمية؛ ما هي وماذا فعلت؟
إجابته كانت: هذه الأكاديمية أسست عام 2006، وهدفها تحرير الشعوب من القيود، ومساعدتها على التغيير من خلال تدريب كوادر ومؤسسات المجتمع المدني والنشطاء على استراتيجيات ووسائل وسبل التغيير وتوفير الأدوات المؤدية لهذا الغرض.
كانت أول استنتاج بدر لدى الكثير من الحاضرين هي أن هذه الأكاديمية منشأة غربية موجهة وممولة من قبل المخابرات الغربية أو ثري يهودي مهووس بالتغيير في العالم العربي، لعل وعسى ان يعود ذلك بالخير على إسرائيل ويشيع السلام في المنطقة.
لم يبطئ الخبير الويلزي في إيقاف سلسلة التخمينات وتسارع الفكر المؤامراتي، حيث بادر إلى القول بأن هذه الأكاديمية ليست سوى واحدة من أبرز أدوات المشروع القطري (دولة قطر) لإحداث الاضطرابات وإسقاط النظم العربية.
ووسط ابتسامات الخبراء البريطانيين، قال الخبير: لاحظوا أن العناصر التي قادت عمليات التجمهر والاحتجاجات في دول عديدة تستخدم نفس الأفكار والسلوكيات شكلاً ومضموناً، وكانت تحركها هذه الأكاديمية التي تلعب دوراً بارزاً ومؤثراً في هذا المجال.
واضاف الخبير: لا تنسوا هذه الأكاديمية لديها فرع في الدوحة حيث يزوره كثير من الناشطين العرب ويتدربون في صمت منذ عام 2009.
ووسط ذهول الحضور، أضاف العجوز الويلزي وهو يلمم أوراقه واقفاً: هل فاتكم المخطط القطري لصناعة الاحتجاجات والتغيير في الدول العربي؟
ذهب العجوز وترك الحضور واسئلة كثيرة ترتفع الى سقف غرفة الاجتماعات. لكن البحث عن هذه الأكاديمية يجيب على معظم الاسئلة المتبقية وخاصة عن أهداف الأكاديمية.
لتحقيق أهدافها، تقوم الأكاديمية بتوزيع نشاطها على ثلاث مجموعات. الأولى، تحمل اسم مجموعة ثورة العقول. والثانية مجموعة أدوات التغيير. والثالثة مجموعة ثورة المشاريع.
وتروج الأكاديمية بحماس لأدلة عملية على كيفية التظاهر وإدارة الاحتجاجات على شكل كتب مثل: زلزال العقول، حرب اللا عنف، حركات العصيان المدني، دروع الواقية من الخوف.
يردد كثير من المراقبين لعمل الأكاديمية، أنها لا تهدف كما تظهر إلى تشجيع الحرية والإصلاح والتغيير. بل أن هدفها الرئيس، تفكيك النظم الحالية وتغيير بنية المجتمعات وتهديد استقرارها.
ولعل المثير للجدل ليست هذه الاتهامات، بل أن كارهي الأكاديمية وبرامجها يرونها جزءاً من مشروع قطري إخواني هدفه السيطرة على أنظمة عديدة عبر تحريك شعوبه ثم تتويج إخوان محسوبين على قطر على الأنظمة الجديدة. وبالتالي وقوع دول كثيرة تحت سيطرة قطرية غير مباشرة.
بالطبع شيخنا الباحث الويلزي ، كان بعيداً عن الوصول إلى استنتاجات أخرى وخاصة دوافع الإخوانية. لكنه امتدح عمل الأكاديمية وخاصة في استعمالها للإعلام الحديث ومواقع التواصل الاجتماعي.
وأشار إلى أن الأكاديمية تقوم بتعليم الكوادر الشبابية عبر الانترنت ومواقع اليوتيوب وتحت عناوين كثيرة منها أفكار الثورة، وأفكار للثوار وكيفية التعامل مع القوى التقليدية ولماذا لا يتم مواجهة عنف بعنف مضاد وكيفية ترفع من تكلفة القمع على خصم وكيف يمكن كسب خصوم.
هذه الأفكار أثارت العديد من الباحثين فحاولوا ربطها بالواقع المعيش في الثورات العربية.
يقول أحدهم إن أفكار وتكتيكات الأكاديمية تم استعمالها مؤخراً في حركات احتجاج وتطبيق لأساليب التحرك على الأرض والشعارات المستخدمة.
وتبرز تكتيكات مهمة منها: التنقل بالاضطرابات بين المدن والمناطق، والعمل على تكرار التظاهرات والمسيرات لإنهاك قوى الأمن، والعمل على تشتيتهم. وأيضا محاولة تحييد قوت المسلحة قدر الإمكان. وتكثيف تغطية والتعبئة الإعلامية الموجهة.
وتقوم شبكات متعددة بنقل كافة المعلومات الواقعة على الأرض الى منظمات دولية كالأمنستي انترناشونال وهيومان رايتس ووتش عبر شبكات الانترنت والتفاعل الاجتماعي، والهدف من ذلك هو تقوية الضغط الدولي على النظام وتسبب في حرمانه من مشروعية دولية وإبعاد أصدقائه عنه.
كما يبرز من التكتيكات للأكاديمية خلال الثورات استغلال الإعلام الجديد في الدعاية لانتهاكات النظام أمام الرأي العام الدولي مع التأكيد على سلمية التظاهر وعدم اللجوء للعنف الظاهر.
ومن التكتيكات أيضاً التدرج السريع في رفع سقف مطالب وتنفيذ خطوات العصيان المدني وإبراز بعض المعاني الرمزية مثل حمل المصاحف وإضاءة الشموع ودق الطبول وحمل الأعلام الوطنية، وأيضاً نشر وتعلم وسائل التصدي لقوات الأمن مثل الدروع الواقية ومكافحة الغازات المسلة للدموع.
حينما تبدأ حركات احتجاج لا يتم إدخال القوى السياسية المنظمة والمعروفة في البداية، بل يعمل على ان تبدأ بشكل بريء وبعد أن تستقر وتجذب الانتباه وتزداد الأعداد تدخل القوى السياسية المنظمة كالإخوان المسلمين في مصر وحركة وفاق في البحرين وعدد من القبائل في اليمن.
ومن أهم التكتيكات هي أن العمل السلمي للاحتجاج لا يقتصر على اللاعنف فقط، بل هو أيضاً معني بالبهجة والإسعاد، فيجب ان تكون الأجواء احتفالية حتى تجذب عناصر وأعداداً كبيرة من الجماهير.
يدير هذه الأكاديمية رجل مصري يحمل الجنسية البريطانية واسمه هشام مرسي. قد يكون طبيب أطفال بسيطاً، لكن قوته تأتي من زواجه بابنة الشيخ الإخواني يوسف القرضاوي.
وكان قد أعتقل في 31 يناير الماضي داخل ميدان التحرير وتم إطلاق سراحه بضغوط بريطانية قوية.  

هشام مرسي

 ولا يعمل مرسي وحده بل يساعده وائل عادل بالإضافة الى شخص مصري ثالث لا يعرف عنه الا ان اسمه الاول أحمد.

وائل عادل
هؤلاء الثلاثة بدأوا العمل والترويج لأساليب الإحتجاجات وبشعارات سلمية منذ 2005. وقد استفادوا كثيراً من التجربة الصربية التي أطاحت بسلوبودان ميلوسوفيتش وكان من تنظيم مجموعة أوتبور.
جرب الثلاثة ما تعلموه في عام 2006 وكانت البداية منطقة المحلة في مصر، حيث المجتمع عمالي وتعاني شرائح كبيرة منه من تدني الأجور وظروف عمل سيئة.
نجحت الدعوة في الحث على إضراب أكثر من عشرين الف عامل نسيج ولمدة ستة ايام بسبب عدم صرف علاوات، وكانت التجربة مثمرة حيث أربكت الاحتجاجات رغم سلميتها الشرطة المصرية التي لطالما ما تعودت على التعامل مع حشود غير منظمة.
شجع ذلك الثلاثة على تنظيم تدريبات عملية لمجموعات عديدة من الشباب المتضامن على الفيسبوك. وكان عدد كل مجموعة لا يقل عن مائة متدرب. وعمدت التدريبات على التركيز على كيفية تضخيم قوة حركة الاحتجاج إلى حد اقصى وأيضا طريقة عمل الاحتجاجات الصامتة، والسيطرة على رجال الآمن لكسب تعاطفهم بترديد عبارات مثل "سلمية سلمية".
سرت قطر بنجاح التجارب العملية فصعدت من دعمها للأكاديمية بسرعة، ورعتها بكل ود وحب وتمويل، وزادت على ذلك بأن أفتتحت لها فرعا في الدوحة.
بالطبع لم يكن للشباب القطري نصيب في التعلم من مهارات القائمين على الأكاديمية. كان فرع الدوحة يدرب النشطاء والمعارضين الأجانب فقط. ويقدم النصح عبر دورات متخصصة، ركزت في جزئها الأكبر على الساحة المصرية.
ومن ثم يمكن التحرك على دول أخرى. كان عتاد هذا الفرع إخوانيين حركيين لديهم ارتباطات قوية بفرع الإخوان المسلمين في قطر والذي أصبح جزءا من مؤسسات النظام في عام 1999.

الشيخ يوسف القرضاوي

وتشير معلومات مهمة إلى أن جهاز الأمن الوطني في البحرين توصل الى أن مؤتمر "فور شباب العالمي" الذي كان من المقرر إقامته في المنامة من الثاني الى السابع من يوليو 2011 هو جزء مستتر من نشاطات الأكاديمية مما أدى الى ضغوط لإلغائه وانسحب ضيوف مهمون منهم عمرو خالد وعمر عبدالكافي.


شعار مؤتمر فور شباب البحرين

كان عنوان المؤتمر "هندسة التغيير... التكوين والأدوات" مما يدل على ارتباط قوي بمنهج الاكاديمية على الرغم من أن الأجهزة البحرينية تحدثت عن أن إلغاء المؤتمر كان سببه الرغبة في التركيز على مؤتمر الحوار الوطني ليس إلا.
المهمة الأميركية
نتيجة للإلحاح القطري والتذكير بالاتفاق الذي تم في قطر خلال منتدى المستقبل بين القطريين والاميركيين حول مشروع مستقبل التغيير في العالم العربي طلب القطريون من الاميركيين احتضان 6 ابريل ولقاء بعض نشطائها المقيمين في واشنطن وكان ان تم ذلك بسرعة.
وبسرعة تم حشد شركات كبرى كداعمة وموفرة للدعم الفني للمشروع ساهمت غوغل وفيسبوك وبيبسي وام تي في ومحطات تلفزيون اميركية في جعل التقنية خادمة للثورات.
ولا ننسى كيف ان غوغل خلال الثورة المصرية ساهمت وتويتر في تقديم خطوط هاتفية مجانية ودولية لخدمة المتظاهرين للتبليغ عن ما يحدث.
6 ابريل
احتضنت الولايات المتحدة حركة 6 ابريل بتمنع خجول في البداية فقد كانت متشككة في وجود بعد إخواني وخوفا من ان تحرج اميركا مع دول عربية عديدة إذا افتضحت العلاقة مع فئة معارضة لنظام حليف كالنظام المصري.


شعار حركة 6 أبريل 

لكنها توصلت الى اتفاق عملي مع أحمد صلاح الدين علي أحد نشطاء 6 ابريل والضابط المتقاعد عمر عفيفي المقيم على مقربة من واشنطن ويملك غرفة إرشاد ومراقبة للثورة من مقر سكنه.

عمر عفيفي


أحمد صلاح الدين

في 20 نوفمبر 2008 عقدت في نيويورك قمة تحالف الحركات الشبابية وشارك فيها العديد من الشباب من أنحاء كثيرة في العالم وساهم في القمة تمويلا ومشاركة كلا من غوغل، وفيسبوك، وام تي في، ويوتيوب، ومسؤلين حكوميين من الإدارة الاميركية، وأيضاً من مدرسة القانون في جامعة كولومبيا.
وبعد نجاح القمة الاولى كان من ثمارها اجتماع أخر في الثالث من ديسمبر 2008 شارك فيه بكثافة عاملون سابقون في حملة اوباما الإنتخابية والبنك الدولي وإدارة الأمن الاميركية ووزارة الخارجية الاميركية وبيت الحرية وهو مركز مروج للحريات دولياً مقره في اميركا. 


شعار مركز بيت الحرية الأمريكي

كان من الحاضرين للقمة اعضاء من حركة 6 ابريل المصرية. تبع ذلك زيارة وفد رفيع المستوى من بيت الحرية الاميركي الى القاهرة، ودراسته أرض الواقع ومعرفة الحدود، والإمكانيات للتغيير، ولقائهم العديد من الشباب المنتمين لحركة 6 ابريل.
تلا ذلك تطور كبير في اداء حركة 6 ابريل، تنوعت الادوات والشعارات وتناسقت مع التطور النوعي لدى المجموعة وإنضمام شباب جدد ومجموعات اخرى ولقاءات ضمن قمم اتحاد الحركات الشبابية في مكسيكو سيتي 2009 ولندن 2010.
كل ذلك كان يدور وسط استهانة بالغة من النظام المصري، الذي بلغت به العنجهية والغرور، في ما نقل عن أحد مسؤوليه الكبار قوله، أن ما تفعله حركة 6 ابريل، ليس سوى ألعاب اطفال مع غربيين مهووسين بالتغيير، في مجتمع لن يتغير إلا بقنبلة نووية.
وكانت قمة عدم إدراك الواقع، ضحكات جمال مبارك الساخرة في إحدى المؤتمرات الصحفية في القاهرة، حول دور الفيسبوك في التغيير شاركه بفرح في ذلك مراسل قناة الجزيرة حسين عبدالغني في نفس المؤتمر.
كان جمال مبارك يمارس سخريته بينما شركات أميركية كبرى كغوغل وفيسبوك وبيبسي وسي بي اس أخرى كثر، تراهن على التغيير في العالم، وتمول قمماً شبابية يتم فيها التدارس والتمرين على التغيير في نيويورك ومكسيكو سيتي ولندن ثم العودة إلى نيويورك.
الخلاصة
بعد كل هذا، يترامى إلينا سؤال مهم، هو كل هذا الجهد التبشيري بالثورة والتغيير يصب لمصلحة من؟
هل هو لمصلحة شعب، أم لمصلحة تيار سياسي ديني؟
هل هو وسيلة من وسائل الإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم باستغلال توق الشباب العربي للتغيير والحصول على حقوق مشروعة، أم انه رغبة غربية في تغيير أنظمة أصبحت عبئا عليها؟
أم أن الأمر هو تحالف بين الغرب والإخوان تم بتنسيق قطري وبدأ من خلال تنظيم منتديات المستقبل القطرية في الدوحة والتي روجت للتغيير؟
مادا عن توسع الجهد القطري الإخواني حالياً وبقوة وانتشاره كالنار في الهشيم محاولاً التأثير على دول مختلفة والعديد من الفعاليات الممولة من قطر ولمصلحة الإخوان تتم حالياً في دول الخليج العربي حيث عمليات التنفير والتحشيد تتم عبر فعاليات متعددة؟
تثار في الخليج الكثير من المخاوف في أن يصبح شباب الخليج في قبضة أجندات خارجية تثير الفوضى وتوهن العقد الاجتماعي الذي يستطيع الآن الحد من تصلب الأنظمة ولو على استحياء.
قطر بوضعها يدها في يد الإخوان ودعمها لهم لا تعرف انها يوماً لن تجد لها من سيشرع وجود عائلتها الحاكمة على سدة الحكم لأن ذلك يتعارض مع النظرة الإخوانية للحكم الشرعي.
من جانب أخر وفي الوقت الذي يجد الشباب العربي في حركات التغيير ملاذه خاصة عبر وجبات ثقافية خفيفة تحمل الأمل.
وفي الوقت الذي تتضمن فيه هذه الوجبات أساليب وأنواراً في نهاية نفق اليأس، يجب على الحكومات العربية التي لا تريد للإخوان قيادة التغيير أن تقود هي هذا التغيير والتحديث عبر برامج واستراتيجيات تكون الحرية والحقوق من أولوياتها.
لا يمكن ترك الشباب لتيارات شمولية قد لا تختلف عن الأنظمة الحالية، ثم التنطع بأن لا حل سوى القمع والحصار والحديث عن أن الأنظمة الحالية هي الحل.
الشباب العربي أصبح أكثر ذكاء في استعمال أدوات حديثة للتغيير. وإذا أرادت الأنظمة البقاء على قيد الحياة وعدم ترك شعوبها تذهب تحت رحمة تيارات تماثلها في أحادية التوجه ورفض الحريات، فعليها أن تبز تلك التيارات بتقديمها للشباب حلولا ناجعة يكون أهمها الانفتاح السياسي والفكري.
أمر أخر هو أين هي التيارات الليبرالية؟ بل وأين هي اليسارية التي يصدعنا منظروها في الحديث عن حتمية التغيير وسط دخان السيجار الكوبي؟
ايضا أين هو التغيير عن مسقط رأس ممولي وأصحاب مواقع وبرامج التغيير؟
اسئلة كثيرة تحتاج الى أجوبة.

....
  • ملاحظتان مهمتان من الناشر:
  1. نشر المقال في العديد من المواقع، ومنها هنا، وتم تحريره وتنسيقه وتقديمه للنشر بصورته الحالية واضافة الصور والروابط إليه من قبل (وجهات نظر).
  2. لمزيد من المعلومات حول المؤسسات التي ورد ذكرها في المقال أعلاه، ينبغي الاطلاع على المواقع التالية :

الأحد، 7 أبريل 2013


الخميس، 24 يناير 2013

كتاب «الثورة المصادرة.. هل ينقذ رفاق البوعزيزي ثورتهم ؟


هل ينقذ رفاق البوعزيزي ثورتهم من «المصادرة»؟ 

كتاب يرصد كرونولوجيا «الانتقال الديمقراطي» في تونس
المعطي قبال
يمثل كتاب «الثورة المصادرة.. بحث في الانتقال الديمقراطي بتونس»، لمؤلفه بيير بيشو، حصيلة سنة كاملة من التحري والتحقيق في قلب تونس،
عبر ولوج حميمية جسد الدولة التونسية، جس نبضها ومعاينة مرضها، بغية تقديم تشخيص أولي عن مسلسل الانتقال التونسي. وبصفته بانوراما لإعادة البناء السياسي التونسي، يوثق هذا الكتاب لرهانات مرحلة انتقالية أدت إلى انبثاق معسكرين -ليس معسكر العلمانيين الحداثيين ضد معسكر رجال الدين الرجعيين- بل معسكر الشرعية الثورية ضد معسكر المدافعين عن النظام البائد.. «معسكر المستقبل ضد معسكر الماضي».
لم تشهد المكتبة التونسية، بجميع اللغات، إصدارات بنفس الكثافة التي شهدتها منذ اندلاع ثورة الرابع عشر من يناير 2011. في زمان الطاغية بنعلي، كان وضع النشر والتوزيع في وضع مزرٍ ويعيش على تبعات الرقابة والمصادرة والقمع. بمعنى أن الكتاب كان أيضا ضحية الديكتاتورية.  لكن مع الثورة انفرجت الأوضاع نسبيا فبدأنا نلاحظ الترخيص لكتب ومنشورات عن تونس وعشيرة بنعلي كانت محظورة وكفيلة باقتياد قارئها أو مقتنيها إلى السجن.
هذا الكتاب حصيلة سنة كاملة من التحري والتحقيق في قلب تونس، ويغطي الفترة الواقعة بين يناير 2011 وربيع 2012. وقد أثرى المؤلف بحثه بالمقالات التي سبق أن نشرها بموقع «ميديابار» الإلكتروني، الذي يشغل به منصب محقق  عن المغرب العربي والشرق الأوسط منذ عام 2008. وسبق للمؤلف، وهو أحد الأوائل الذين رافقوا الثورة التونسية، أن نشر كتابا عام 2011 بعنوان «تونس، ثورة عربية» عن دار غالاد للنشر.
ثمة درس تاريخي هام يطرحه علينا الشعب التونسي منذ رحيل الطاغية بنعلي، هو  أن الثورة التونسية هي قبل أي شيء حكاية علاقة قوة مستدامة بين الشارع وبين المؤسسة القائمة بالأمس. مع العلم أن هذه الأخيرة هي دائما على استعداد للحفاظ على مكانها وامتيازاتها في تونس الجديدة. لما فر بنعلي لم تتغير الحكومة، بل تابعت ممارسة مهامها وكأن شيئا لم يحدث.  هنا يكمن الإشكال إذن في نوعية وطبيعة هذه الاستمرارية.
ماذا بعد؟ ما هو رد فعل الشعب تجاه هذا الوضع، الذي تحاول القوى الخفية الإبقاء عليه؟ الواضح أنه حتى مع وضعية الانتقال الديمقراطي بمجيء الإسلاميين إلى السلطة، فإن الشارع أو الشعب التونسي غير راض ولا يقبل بهذا النوع من التوافق. الواضح أن تونس تحررت من قبضة الطاغية المنبوذ، لكنها شعرت بأن ثورتها صودرت وقرصنت منذ اليوم الثاني للثورة.
ويعرف المؤلف بغائية مشروعه لما يكتب: «يطمح هذا الكتاب إلى ولوج حميمية جسد الدولة التونسية، جس نبضها، معاينة مرضها بغية تقديم تشخيص أولي عن مسلسل الانتقال التونسي.
وعليه يستحضر على لسان الرئيس السابق نفسه حلقات من التراجيكوميديا خلال فراره إلى السعودية، ويصف كواليس مناخ التخويف الذي اختلقته السلطات لكي تبقى على رأس السلطة. كما يقربنا، استنادا على وثائق رسمية، من  الميكانيزمات التي أدت إلى مصادرة الثورة التونسية.  كما يفصل الحديث في الصراعات المريرة التي دارت بين مختلف الأقطاب داخل وزارة الداخلية للقضاء على الأمن السياسي الذي لا يزال منتعشا.
وبصفته بانوراما لإعادة البناء السياسي التونسي، يوثق هذه الكتاب رهانات مرحلة انتقالية أدت إلى انبثاق معسكرين. ليس معسكر العلمانيين الحداثيين ضد معسكر رجال الدين الرجعيين كما تحاول أن تقنعنا بذلك فئة من «النخبة» المتعبة، التي «لوثتها» أفكار «المدرسة الفرنسية»، كما يقر بذلك منصف المرزوقي، المعارض الذي أصبح رئيسا، بل معسكر الشرعية الثورية ضد معسكر المدافعين عن النظام البائد، أو حسب تعبير عياض بن عاشور، مهندس الدستور التونسي لما بعد 14 يناير، «معسكر المستقبل ضد معسكر الماضي».
عام من وقائع الثورة
انغمس بيار بيشو لمدة عام كامل في تونس ما بعد الثورة، ليتابع المعركة التي خاضها الشعب التونسي لبناء ديمقراطيته المميزة، ليس فحسب الديمقراطية التمثيلية، بل ديمقراطية «ثرية»، حسب عبارة النقابي لمجيد الجابلي، عبر إعادة  تجديد ممارسة الانخراط الشعبي.  ويرسم الكتاب بورتريهات وينقل شهادات لأهم الفاعلين التونسيين. كما يبحث في قلب الجيش، الشرطة السياسية أو العدالة التونسية، ويقف أيضا عند الثورة السيمانطيقية، البلاغية، الثقافية والشعبية التي تمارس يوميا. ولربما حققت الثورة على مستوى المعجم والمنطق الدلالي واللغوي الشيء الكثير، لأنها تصبو إلى ابتكار كلمات جديدة لا علاقة لها بالعهد البائد لبنعلي.
رمزية 14 يناير
يبقى 14 يناير 2011 بالنسبة للتونسيين وبالنسبة للعديد من الشعوب أحد الأيام التاريخية الحاسمة لقرننا الحالي. شهد رحيل الطاغية بنعلي بعد 23 عاما من الحكم. كما شهد ولادة عهد جديد مليء بالوعود والآمال. وخلال عدة أشهر، لم يتسرب ولو خبر دقيق لتفسير ما وقع في ذلك اليوم. منذ نهاية شهر يناير 2011، راج تفسير أول يستند حصريا على مصادر مجهولة وبمنأى عن الحقيقة. كانت أسبوعية «لونوفيل أوبسيرفاتور» وراء نشر هذا الخبر بعنوان «الحكاية السرية لهروب بنعلي». تعطي هذه الرواية مصداقية كبرى لنظرية المؤامرة، التي حاكتها زوجة بنعلي وزوجة علي سرياتي، رئيس الحرس الشخصي لبنعلي. غير أن الرئيس التونسي المخلوع كذب شخصيا هذه الصيغة، كما كذبها وزير العدل. لكن الحكومة التونسية سخرت هذه الرواية لخلق مناخ من الرعب غداة الرابع عشر من يناير. في بيان أصدره بنعلي، فسر بأنه صعد إلى الطائرة رفقة زوجته وأبنائه، وأن علي سرياتي، المسؤول عن أمنه الخاص وأمن عائلته، طمأنه على عودته قريبا إلى تونس. أما الرواية الثانية فهي التي روجها علي سرياتي نفسه عند بداية محاكمته في 26 من يوليوز 2011 بتونس: «أيقنت منذ 12 يناير بأن سقوط بنعلي أصبح وشيكا، وأن البلد سيعرف فراغا دستوريا». وتابع روايته قائلا إن قوات البوليس والحرس الوطني سينزلون بالمظلات على مطار تونس-قرطاج.  وأضاف «حوالي الثالثة بعد الظهر دعاني بنعلي إلى مكتبه ليطلب مني تجهيز الطائرة الرئاسية للإقلاع بعائلته في السادسة في اتجاه العربية السعودية حيث ستبقى هناك إلى أن يهدأ الوضع. طلب مني مرافقتها في الرحلة. وبالمطار غير رأيه وقرر مرافقتها بنفسه والعودة إلى تونس في الغد». روايتان، وإن كانت صادرة عن المعنيين الرئيسيين هذا اليوم، تبقيان مع ذلك ناقصتين ولا يمكن التأكد من صحتهما لأنهما غير مقنعتين.
لكن عدة تحقيقات، من بينها تلك التي قام بها بيار بيشو نفسه، والتي نشرها على موقع «ميديابار» الإلكتروني، كشفت تدريجيا عما أسماه الجميع بتونس «قضية المطار». أول مساعدة جاءت من الكولونيل سمير الطرهوني، رئيس فرقة محاربة الإرهاب بالشرطة الوطنية. ذلك أنه خلال ندوة صحافية عقدها هذا الأخير في 8 غشت 2011،  قدم روايته في مسألة الرهائن، التي قادت إلى رحيل بنعلي. وهي رواية تناقض رواية علي سرياتي. وحسب الأخبار التي بحوزة بيار بيشو، فإن الكولونيل قرر عقد هذه الندوة بعد أن علم أن عماد الطرابلسي أخ ليلى بنعلي، قرر تصفية العائلة. كان من آثار هذه الندوة أن أجهضت أيضا الصيغة الرسمية القائلة بأن آل الطرابلسي ألقي عليهم القبض من طرف الجيش بعد مغادرة بنعلي تونس ليلة 14 يناير.  يدخلنا الباحث في عالم مافياوي شبيه بأفلام آل الكابون أو العراب.
وثائق ومستندات القضاء التونسي
المعروف أن الأمن الوطني التونسي يتكون من أربع وحدات خاصة، من بينها فرقة محاربة الإرهاب التابعة للأمن الوطني والوحدة الخاصة للحرس الوطني. هاتان الوحدتان هما اللتان رافقتا بنعلي في السابع نوفمبر خلال عمليته الانقلابية. ومنذ ذلك التاريخ بقيت فرقة محاربة الإرهاب في الظل ولم تتدخل إلا نادرا، اللهم في المهمات الصعبة. بالإضافة إلى رواية الكولونيل طرهونة، فإن المصدر الرئيسي الثاني الذي يعتمد عليه هذا التحقيق هو القضاء التونسي. إذ أن جزءا مهما من الوثائق المستعملة لإعادة صياغة ظروف يوم 14 يناير بتونس منتقاة من ملف التحقيق الصادر عن المحكمة العسكرية، التي تابعت إفادة قسم من جلسات الاستماع، التي قادها القضاء المدني، بما فيها جلسة الاستماع إلى علي سرياتي المدير السابق للأمن الرئاسي.
 في صبيحة الجمعة من الرابع عشر من  يناير، تواجد بقصر قرطاج 28 من أعضاء عائلة الطرابلسي، المقربين من ليلى الطرابلسي. في ذاك الوقت كان ملايين التونسيين يتظاهرون أمام وزارة الداخلية، وكان البعض الآخر يهاجم الفيلات التي كان يقطنها أعضاء العائلة. وبما أن أمنهم الشخصي أصبح غير مضمون، قرر المسؤول عن الأمن الرئاسي، علي سرياتي، أن يرحلهم عن تونس في اتجاه مدينة ليون بفرنسا على متن الرحلة المقررة في الثالثة بعد الزوال. الوحيد الذي قرر الرحيل على متن باخرة هو بلحسن الطرابلسي (أخ ليلى الذي يوجد اليوم في حالة فرار بكندا).
ظلال كثيفة حول روايات متضاربة
في صبيحة يوم الجمعة، تحدث علي سرياتي إلى بنعلي ليخبره بأن «28 شخصا لقوا حتفهم خلال أربع وعشرين ساعة، من بينهم شخصان بتونس. وتضمن التقرير الذي قدمه علي سرياتي لبنعلي تفاصيل عن الهجومات، التي تعرضت لها مراكز الشرطة وسرقات للسلاح واستعدادات المتظاهرين للخروج إلى الشارع الخ...». كان هذا مفصل الرواية التي قدمها علي سرياتي خلال محاكمته. أما الرئيس المخلوع فبعث برسالة عبر محاميه أكرم أزوري إلى «ميديابار» يقدم فيها رواية أخرى مختلفة بعض الشيء، لكنها   تقدم توضيحات إضافية: «في صبيحة يوم الجمعة 14 يناير تقدم علي سرياتي إلى مكتب الرئيس ليخبره بأن الوضع بالعاصمة تونس خطير للغاية وأصبح منفلتا وبأنه يتوجب عليه إجلاء عائلته في الحين وبأن قصر قرطاج وإقامة سيدي بوسعيد محاصرين من طرف عناصر مناهضة للنظام تنتمي إلى قوات الأمن. وعين له قاربين بحريين يجوبان البحر بين القصر والإقامة وطائرة هيلكوبتر تحلق فوق المنطقة. وأضاف بأن ما قيل في مسألة تصفية بنعلي من طرف عميل ينتمي إلى الأمن أكدته استعلامات بلد صديق، لكن دون ذكر اسم العميل ولا اسم البلد. وقد ألح على الرئيس بأن يسمح لزوجته وأبنائه بمغادرة البلد في أقرب وقت. وأمام تدهور الوضع وإلحاح علي سرياتي قبل الرئيس بأن تغادر عائلته تونس في اتجاه مدينة جدة» توضح الرسالة.
مثل هذا التضارب في الروايات لازمة أو خصيصة تدمغ تاريخ الثورة التونسية. فعلي سرياتي، الذي أودع السجن لا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار. وليس على استعداد للبوح بهذه الأسرار. يتساءل اليوم التونسيون عن تماطل العدالة في محاكمته على خلفية ضلوعه في القمع وهندسته للنظام القمعي. هل خوفا من توريطه لشخصيات غيرت معطفها بسرعة بعدما كانت في السابق تعمل مع النظام؟
في بداية ديسمبر، اتصل بيار بيشو هاتفيا بعلي سرياتي،  الذي لا يزال سجينا في ثكنة «لعوينة» لمحاورته. وعن سبب مساهمته في دواليب ديكتاتورية سحقت شعبا لمدة 23 سنة، برأ سرياتي نفسه من جميع التهم، مشيرا إلى أنه قدم استقالته للرئيس بنعلي، لكنه رفضها. كما ذكر بأنه أثار انتباهه إلى شطط عائلته وعائلة زوجته، غير أنه لم يهتم بنصائحه ولا بتحذيراته.
الأسرار الدفينة لوزارة الداخلية
يسلط البحث أضواء قوية على وزارة الداخلية التي تخبئ ولا زالت الكثير من الأسرار عن النظام البائد وعن الفاعلين السريين الذين لا يزال بعضهم يعمل في الخفاء. وقد سعى سمير فرياني، وهو مفتش سام أشرف على مركز تكوين الشرطة، إلى نفض بعض أسرار المؤسسة وأدى ثمن ذلك باعتقاله من طرف أعضاء من فرقة محاربة الإرهاب. وقد نشر مقالين بمجلة «الخبير» يشير فيهما إلى أن بعض الضباط الذين كانوا في خدمة النظام قبل 14 يناير لايزالون يعملون بالوزارة، بل الأدهى من ذلك تمت ترقيتهم. وقد تعرف بيار بيشو على أحدهم في شخص ياسين الطيب، الذي قاد حملة القمع في قصرين وسيدي بوزيد أيام بنعلي. وقد تمت ترقيته بعد رحيل الطاغية ليصبح مديرا عاما للأمن العمومي! بعد بنعلي لا يزال نظامه على الأقل في بعض دواليب وزارة الداخلية قائما.  من جهة أخرى، كشف سمير فرياني في مقال آخر عن تدمير أرشيفات منظمة التحرير الفلسطينية خوفا من الكشف عن تورط أجهزة البوليس والاستعلامات التونسية مع أجهزة الموساد الإسرائيلية. إذ سبق لإسرائيل أن حاولت اغتيال ياسر عرفات لما كان في تونس، فيما نجحت في اغتيال أبو جهاد، بتواطؤ مع الاستعلامات التونسية. لذا، فإن عملية تنظيف الساحة بتدمير الوثائق كانت لتبرئة ذمة المتورطين مع الموساد.
2013..  سنة الحسم
الرهانات السياسية، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية المطروحة على تونس ما بعد الثورة جسيمة وفيها الكثير من المخاطرات. أولاها تكمن في التمايز الجغرافي بين الجهات والمناطق. ذلك أن التونسي لا يتوفر على نفس الإمكانيات والمؤهلات إن هو ولد ونشأ في قفصة، تونس، جندوبة، أو سوس. على المشروع الثوري التونسي إذن أن يمسح ويلغي هذه التمايزات. إنه الشرط الذي سيمكن الثورة التونسية من الدوام ومن التغلب على العوائق الخفية للنظام القديم. في 2013 ستكون تونس على موعد ليس فحسب مع دستور جديد، بل أيضا على موعد مع الطموح إلى الإبقاء على ديمومتها الاقتصادية والاجتماعية. فهل ستنجح في ذلك؟ يتساءل بيار بيشو. 

سليانة: رابطة حماية الثورة تعوض مكتب حركة النهضة


   
سليانة: رابطة حماية الثورة تعوض مكتب حركة النهضة
يعيش المجتمع المدني و السياسي بولاية سليانة هذه الأيام حالة من التوتر و الاحتقان نتيجة التحرك الذي أقدمت عليه رابطة حماية الثورة بسليانة. التوتر بدا واضحا في الاجتماع المنعقد البارحة بمقر اتحاد الشغل و الذي من المنتظر أن تتواصل أعماله مساء اليوم.
اجتماع جمع ممثلي الأحزاب السياسية و الجمعيات بالجهة و ممثلين عن اتحاد الشغل و اتحاد الصناعة و التجارة و تم الاتفاق خلاله على إنشاء تنسيقية جهوية للتصدي لكل ما من شأنه أن يمس بصفو الجو المدني العام.
ممثلي اتحاد الشغل نددوا بشدة الاعتداء على موظفي المعتمدية الذي قامت به عناصر محسوبة على رابطة حماية الثورة بسليانة.
و في تصريح خاص قال السيد أحمد الشافعي الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بسليانة لتانيت برس أن الاتحاد يرفض رفضا قطعيا تواجد رابطة حماية الثورة بالجهة. كما قال الشافعي أن رابطة حماية الثورة نقطة توتر بين الاتحاد و الحكومة. و أنه يحق للدولة وحدها أن تقرر تعيين أو إقالة من تشاء و لا مجال لتدخل أطراف أجنبية في قرارات سيادية لخدمة مآرب خاصة.
من جهة أخرى عبر ممثلي الأحزاب السياسية عن استيائهم الشديد من الاعتداء على الموظفين من ناحية و على السماح الحكومي لتواجد رابطة حماية الثورة في سليانة خاصة و أن هذا الفرع فتح منذ حوالي الثلاث أسابيع.
و ذهب بعضهم إلى اعتبار هذه المليشيات رد فعل من الحزب الحاكم على غلق الأهالي لمقر حركة النهضة بسليانة خاصة و أن عدد من نشطاء الرابطة من الوجوه كانوا أعضاء في المكتب الجهوي لحركة النهضة بسليانة. 

« خفايا وأسباب تخلّص راشد الغنّوشي من القيادي صالح كركر في حركة النّهضة





يبدو أنّ المرحوم صالح كركر ما زال يشكّل هاجسا لحركة النهضة أو لقسم منها على الأقلّ..وقد علمت « قناة أسطرلاب » من مصدر كان من القريبين من القياديّ الإسلاميّ الراحل أنّ مجموعة من الأوفياء للرجل والذين كانوا يساندونه في صراعه مع الأستاذ راشد الغنوشي يستعدّون للعودة إلى الساحة الإسلامية في البلاد وزادهم تراث الفقيد الفكريّ والسياسي..ويبدو أنّ أوّل الغيث سيكون تجميع مجموعة من المقالات التي كتبها صالح كركر وفيها مراجعات هامّة للفكر السياسي الإسلامي ودعوة واضحة إلى الفصل ما بين الدعوي الديني والمدني السياسي..وفي هذا الإطار بادرت هذه المجموعة إلى نشر نصّ يبيّن خلفيات الصراع بين القيادي الراحل صالح كركر والقيادي المواصل للقيادة راشد الغنوشي..وهذا النص يحمل عنوان: »خفايا وأسباب تخلّص راشد الغنّوشي من القيادي صالح كركر في حركة النّهضة »، وهو بإمضاء مجموعة تطلق على نفسها اسم : « جمع من أعضاء فضاء الحوار من أجل الحريات والديمقراطية في تونس »، وهذه نسخة كاملة من النص ننشره بعد إذن من أحد القريبين من الراحل:

في شهر ماي 1989 يختار راشد الغنوشي الفرار من تونس والتخلّي عن أنصار وأتباع حركة النهضة بعد أن ورّطهم في المواجهة الميدانية والصدام مع أجهزة السلطة. وقف القيادي صالح كركر ضدّ خيار الجبن والغبن بهروب راشد الغنوشي من البلاد وتوتّرت العلاقة بينهما خاصة بعد أن قام صالح كركر بفضح فشل محاولة الانقلاب النهضوي سنة 1991 على نظام بن علي في غياب أطر النّجاح وآليات قيادة البلاد. حاول راشد الغنوشي إلقاء المسؤوليّة على صالح كركر المعروف بمواقفها الراديكالية وشنّ ضدّه حملة تشويهية عبر أزلامه من مرتزقة البترودولار.

في أكتوبر 1993 يجتمع راشد الغنوشي بشلّته الطّائفيّة في ألمانيا ويقرّر طرد غريمه صالح كركر من حركة النهضة إلاّ أنّه كان هنالك عائق في الإعلان عن هذا الخبر : كان وزير الداخليّة الفرنسي شارل باسكوا يقوم بزيارة رسميّة إلى تونس التي رجع منها بقائمة أربعين لاجئا نهضويّا مطلوبين لنظام بن علي وعلى رأسهم القيادي صاح كركر الذي وقع وضعه عند عودة الوزير تحت الإقامة الجبرية في جزيرة أوسّانت دون تسليمه إلى السلطات التونسيّة .

لم يكن هنالك مجال لزيادة الطّين بلّة بعد هذا الإجراء المخابراتي إثر تهميش القيادي صالح كركر .


في نفس السّياق يقوم راشد الغنوشي بنشر قرار طرد صالح كركر من حركة النهضة بعد مدة طويلة من الحسم النهضوي في وضعيّته التنظيميّة… يبقى السؤال المطروح يتمحور حول نوعيّة المقايضة التي قامت بها قيادة حركة النهضة الغنوشيّة في المهجر مع الأجهزة المخابراتيّة الفرنسيّة وعلى رأسها وزير الداخليّة شارل باسكوا للتخلّص من القيادي صالح كركر وتفادي تسليم باقي القائمة المطلوبة للسلطات التونسية؟

في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر 2002 اتخذت حركة النّهضة الإسلاميّة بالمهجر قرارا من أهمّ وأخطر القرارات التي اتخذتها منذ نشأتها. وقد تمثل هذا القرار في فصل صالح كركر من صفوفها التّنظيميّة. والجدير بالذكر أنّ هذا الأخير هو أحد المؤسّسين الثمانية للحركة الإسلامية في تونس ويعتبر بدون منازع الأب التنظيمي للحركة وأحد أهمّ المنظّرين لها ورجل المؤسّسة الأول فيها.

وقد كان أول مسؤول عن المؤسّسة التّنظيميّة بالحركة، وبقي على رأسها طيلة العشريّة الأولى التي عقبت تاريخ التّأسيس. وتحمّل لمدة طويلة نيابة رئاسة الحركة ورئاسة مجلس الشورى فيها ثم رئاسة الحركة سنة 1987 وقاد صحبة ثلّة طيبة من إخوانه المواجهات التي حصلت بين الحركة والسّلطة والتي انتهت بسقوط بورقيبة من الحكم على إثر انقلاب قام به ضده وزيره الأول الجنرال بن علي.

وإذا استثنينا السيد صالح بن عبد الله البوغانمي، أحد المؤسّسين الثمانية، و الذي لا نعرف وضعيّته التّنظيمية الحقيقيّة في الحركة حاليّا، يعتبر السيد راشد الغنوشي، بعد فصل صالح كركر، هو آخر الأعضاء المؤسّسين الذي بقي في الحركة رغم أنّ كلّ المؤسّسين ما زالوا على قيد الحياة.

فهل يعني ذلك أنّ السيد راشد الغنوشي قد حصل بشكل أو بآخر على كلّ أسهم المشاركين له في التّأسيس، وحوّل الحركة إلى ملكيّة خاصّة له أم أن الأمر لا يعدو أن يكون أكثر من مجرّد صدفة بعيدة عن كل إرادة تصفويّة مبيّتة أو غير مبيّتة؟

فمنذ تأسيس الحركة بقي صالح كركر وفيّا لطبيعته كمؤسس، مهموما بمسألة التّجديد والإبداع في الحركة، وجعلها حركة حديثة ومتطوّرة وقائمة على مؤسّسات عصريّة قويّة وعلى أسس علميّة أصيلة، وجعلها متمشّية دائما مع واقع المجتمع، قريبة منه، مستجيبة لمطالبه وهمومه، وهو ما أكسب الحركة شعبيّة واسعة فريدة من نوعها في البلاد.

ولم تكن مهمّة صالح كركر في هذا التّوجه وفي هذه المجالات سهلة فقد واجه منذ وقت مبكّر صعوبات جمّة ومعارضة شديدة من قبل القيادة وأعوانها المقرّبين مما اضطرّه في أكثر من مناسبة إلى الاستقالة من المسؤوليّة التي يتحمّلها. فأمام استحالة التّناغم بينه وبين رئيس الحركة اضطرّ إلى الاستقالة من نيابة رئاسة الحركة، وكذلك من رئاسة مجلس الشورى.

وبعد خروجه من السّجن في شهر أوت من سنة 1984 خرج مصحوبا بورقة أعدّها في السّجن تستهدف تحوير البنية التّنظيميّة للحركة وتقنين مهمّة رئاسة الحركة في اتجاه الحدّ منها وربطها برقابة أشدّ من قبل المؤسّسات وعموم أعضاء الحركة وبالحدّ من عدد التّرشّحات المتتالية لرئاسة الحركة بالنّسبة لنفس الشخص وكان من المنتظر أن تكون تلك الورقة من جملة الورقات التي سيناقشها المؤتمر العام للحركة الذي عقد في شهر نوفمبر من سنة 1984.

ورغم أن الورقة وقع تسليمها من طرف الأخوين صالح بن عبد الله البوغانمي ومحمد شمام للجنة تنظيم المؤتمر إلاّ أنه وقع حذفها عمدا ولم تكن ضمن بقيّة الأوراق المطروحة خلال المؤتمر ممّا تسبّب في ضجّة خلال أعماله كادت تؤول إلى انفضاضه قبل انتهاء أشغاله.

وقد تعرّضت محاولات صالح كركر لتطوير الحركة في اتّجاه المرونة والواقعيّة والانفتاح منذ البداية إلى صعوبات جمّة. وقد حوّل المناوئون هذه الاجتهادات عن وجهتها الحقيقيّة وقدّموها على أساس أنّها مجرّد شكل من أشكال الصراع على القيادة بين كركر وراشد الغنوشي، بينما لم تكن تلك هي الحقيقة.


وبعد فشل مشروع الحركة في مواجهة نظام الجنرال بن علي، وما تسبب فيه ذلك لما يزيد عن الخمسين ألف من أعضائها ومتعاطفيها من معتقلات مع التعذيب الوحشي والذي أدى أيضا بالعديد من العشرات إلى الموت، وإلى أعداد غفيرة أخرى إلى الطرد من الشغل والتجويع، و إلى التشريد والمنافي في كافة أصقاع الدنيا، انتبه صالح كركر إلى فداحة الكارثة و شعر بالأضواء الحمراء تشتعل أمامه من كل مكان وأدرك بحسّه المرهف أنّ الحركة لم يعد يمكنها أن تواصل السّير كما درجت عليه من قبل حصول الكارثة.

فأصدر الصّيحة تلو الصّيحة والنّداء تلو النّداء إلى كلّ أعضاء الحركة وقيادتها مطالبا بالقيام بنقد ذاتي حقيقي صريح وتخلّي القيادة التّاريخيّة عن مهامها القياديّة، وإحداث ثورة جذريّة على فكرة التّنظيم والأهداف والمناهج في الحركة قبل أن يزهد فيها أعضاؤها من داخلها وتفرّ من حولها عنها الجماهير المتعاطفة معها من خارجها. فأصمّت قيادة الحركة كعادتها آذانها وآثرت سياسة الهروب إلى الأمام.

وجدّد المقرّبون من القيادة المباشرة هجومهم على صالح كركر واتّهموه بالتّهافت على افتكاك القيادة من راشد الغنوشي تارة وبتأسيس تنظيم موازي لتنظيم الحركة تارة أخرى، حتّى وضع صالح كركر تحت الإقامة الجبرية بسعي أكثر من طرف على رأسها الجنرال بن علي نفسه. وبإبعاد صالح كركر عن ساحة الفعل تنفّس العديد من المناوئين له من داخل الحركة ومن خارجها الصّعداء وفرحوا فرحة الشامت والمستفيد من هذه المصيبة التي حلّت بصالح كركر. وحسب هؤلاء أن صفحة صالح كركر طويت بدون عودة.

ونسي جميعهم قول الله تعالى: « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ».


إن المنفى لا يمكن أن يكون في نظر العـقلاء إلا مكروها وشرّا يحل بالإنسان. إلاّ أنّه من حكمة الله أن الشرّ لا يمكن في الغالب أن يكون شرّا مطلقا وإنّما شرّ بيّن يصحبه خير غير بيّن . كما أنّ الخير ليس هو كذلك دائما وإنّما هو خير في ظاهره يصحبه شرّ غالبا ما يكون خفيّا. وقد استطاع السيد صالح كركر أن يحوّل محنته إلى منّة، ويحوّل ضيقه إلى سعة، فاغتنم ظروف عزلته في إقامته الجبريّة؛ اغتنمها في القراءة والبحث والتّأمّل، خاصّة في وضع العالم وتوازناته، وفي وضع المنطقة والبلاد والتّطوّرات التي تمرّ بها. كما اهتمّ على وجه الخصوص بالحركة الإسلاميّة في العالم عموما وتابع مسيرتها منذ تأسيسها، وتوقّف عند أهدافها ومناهج عملها وخطابها على المستوى النّظري وممارساتها في الواقع. كما توقّف أيضا عند علاقة الحركة الإسلاميّة بمسألة الحكم على المستوى النّظري وبالحكام والأحزاب السياسيّة الأخرى في المعارضة على مستوى الواقع.

وقد خرج صالح كركر من كلّ تلك القراءات والأبحاث والتأمّلات باستنتاجات عدّة نذكر منها:

ـ على مستوى الحركة ذاتها الفصل بين ما هو ديني وسياسي فصلا كاملا. فينهض العلماء والأئمّة والوعّاظ والدّعاة والمفكّرون وغيرهم إلى التّشكّل في جمعيّات متنوّعة ومتعدّدة تخدم كلّ ما هو علوم شرعيّة وفكر إسلامي واجتهاد وثقافة ومساجد ودعوة وغير ذلك خارجا عن كل نشاط سياسي يشارك في السّباق إلى الحكم. كما يبقى الباب مفتوحا أمام الرّاغبين في النّشاط السياسي من المقتنعين بالإسلام والفكرة الإسلاميّة للمشاركة في أحزاب سياسيّة عقلانيّة تحترم دساتير ومؤسّسات وقواعد العمل السياسي في بلدانها.

ـ يستحسن تجنّب قيام أحزاب على أساس تطبيق الشريعة بالشّكل الذي هي عليه الآن، على أن تقوم بدلا من ذلك على أساس برامج عقلانيّة تقترب من الإسلام والحماس له وتبتعد عنه بحسب توجّهات وقناعات أصحابها.

ـ تبقى كل الأحزاب السياسيّة القائمة متساوية أمام مسألة الحماس لخدمة الإسلام وتعاليمه دون أن يتميّز أحدها بالوصاية على ذلك. وبناء على كلّ ذلك فالشّعب هو وحده الذي يوزّع ثقته بين الأحزاب كما يشاء وبما يراه مناسبا.

هذا التّوجّه الفكري والاستراتيجي بالإضافة إلى العديد من المواقف السياسيّة والحركيّة لم ترق للقيادة المباشرة على رأس الحركة وحذّرت صاحبها عن طريق المراسلات المكتوبة من مغبّة المواصلة في هذا الطريق ولمّحت له مهدّدة إيّاه إلى إمكانيّة فصله من الحركة في بعض المراسلات إذا ما هو أصرّ على ذلك. إلاّ أنّ ذلك لم يثن صالح كركر عن توجّهه وعن عزمه على السّير فيه إلى نهايته. وقد كان لذلك صداه الكبير داخل الحركة وخارجها، وهو ما زاد من قلق قيادة الحركة ومن حرجها الشّديد.

وقد اجتمعت أسباب عدة أدّت في النّهاية إلى اتخاذ قرار بفصل صالح كركر من الحركة التي ساهم في تأسيسها. من تلك الأسباب تشبّث قيادتها التاريخيّة بموقع القيادة ورفضها تركه، ومنها أيضا رفض القيادة وأعوانها للفكر المقابل ولمناقشته وقلّة صبرها عليه ممّا يشكّك في قدرتها على قبول غيرها من خارجها في صورة تمكّنها من السلطة. ومنها كذلك تغلّب فكرة التّحزّب الأعمى على مفهوم الفكرة في ذاتها لدى القيادة وأعوانها، فالولاء للشّخص والتّنظيم أصبح مقدّما على احترام الفكرة والصّبر عليها ومناقشتها. ومنها غياب المؤسّسات القويّة والتّوازنات القياديّة التي عرفت بها الحركة من قبل. فمعظم قيادات الجيل الأول والجيل الثاني ممّن عرفوا بقوّة شخصياتهم واستقلاليّتها وتنوّعهم الفكري هم في حالة غياب بسبب السّجن والمهاجر والاستقالات بعد نفاد الصبر.

كلّ هذه الأسباب وغيرها أعاقت الحركة من مصداقيّتها وتركت المجال فسيحا أمام القيادة الحالية لتتصرّف كما تشاء في غير رشد ولا حكمة ولا هدى فأخذت قرار الفصل هذا في غير حكمة ولا حنكة سياسيّة ولا هو من حقها مطلقا.

والحيثيات التي اعتمدتها هذه القيادة لاتخاذ قرارها بالفصل هي في الحقيقة لا تصلح لاتخاذه حيث أنّها تمثّل حقوقا لكلّ عضو في حزب سياسي عصري يقوم على مبدأ احترام أفراده وحرّيتهم في التّفكير والتّعبير.

فالجرم الأوّل الذي نسب إلى صالح كركر هو منازعته لمنهج الحركة التّغييري قولا وعملا . ويذكر صالح كركر أنّه منذ وقت طويل أصبحت له مؤاخذات كبيرة على منهج الحركة التّغييري، وعبّر عن ذلك في مؤسّسات الحركة قبل أن ينفى وفي منفاه كتب الورقات الكثيرة وبلغها إلى الحركة إلاّ أنّ شيئا من ذلك لم يؤخذ بعين الاعتبار وانعقد المؤتمر تلو المؤتمر دون أن يسمح لهذه الأفكار أن ترى الضّوء وتناقش.

وكتب في ذلك المقالات العديدة وأرسل بها إلى المراسلة الداخليّة للحركة أملا في أن يطّلع عليها أعضاء الحركة ويناقشوها، فنشر المقال الأوّل والثّاني وقطع الطّريق أمام بقية المقالات. وليس من باب الصّدفة أبدا أن تجاهلت الحركة تجاهلا تاما عضوها المؤسّس صالح كركر وكأنّه وُوري التراب لمدّة سنوات عديدة قبل اتخاذ قرار الفصل.

فالقيادة هي التي مارست قرار الفصل ضدّ صالح كركر منذ سنوات طويلة قبل أن تعلن عنه وليس العكس. والسيد صالح كركر يقول حول هذه النّقطة إنّه يضع الرّأي العام حكما ويتحدّى قيادة الحركة أن تثبت له مادياّ أنها مكّنته من كلّ حقوقه كعضو وأبقت على اتصال تنظيمي طبيعي معه وذلك منذ وقوعه تحت الإقامة الجبرية. فمن مارس الانفصال يا ترى؟ هل أنّ صالح كركر هو الذي مارس انفصاله عمليّا عن الحركة منذ سنين عدّة كما يذكر قرار الفصل الذي اتّخذته القيادة أم أنّ هذه الأخيرة هي التي مارست ضدّه قرار الفصل منذ أمد بعيد وتجاهلت وجوده تماما وتوقّفت عن الاتّصال به في كلّ ما يهمّ سير الأمور الدّاخليّة للحركة وفي كلّ ما يهمّ عقد مؤتمراتها منذ سنة 1993 سواء كان ذلك في ما يتعلّق بالإعداد أو بما أسفرت عنه تلك المؤتمرات.

فهل يعقل أن يعامل عضو تام شروط العضويّة في الحركة بمثل هذه المعاملة الجافّة وبتجميد عضويّته دون اتّخاذ قرار صريح بالتّجميد. ويذكر صالح كركر أنّ أعدادا واسعة من بين أعضاء الحركة المعترضين على القيادة وأساليبها في العمل وممارساتها الغريبة قد عوملوا بهذا الشّكل وفصلوا عمليّا دون أن تصدر فيهم قرارات بالفصل، هذا بالإضافة لأعداد كبيرة أخرى فصلوا بقرارات رسميّة أو قدّموا استقالاتهم من الحركة بعد يأسهم من إمكانيّة تطوّر قيادتها.

ويذكر صالح كركر أنه لم يعلم بفصله من حركته التي ساهم مساهمة فعّالة في تأسيسها إلا بعد مدّة من اتّخاذ القرار ولم يمكّن من أبسط إجراءات الدّفاع عن نفسه. وهذا أسلوب يتنافى مع أبسط شروط مفهوم العدل حتّى لدى القبائل الإفريقيّة حيث يحاط المتّهم علما بالاتّهامات الموجّهة إليه ويحضر لدى محكمة القبيلة ويحضر معه من يدافع عنه وتحترم إجراءات التّقاضي للجميع، وهو ما أهملت احترامه قيادة الحركة التي حددت اتهاماتها لصالح كركر وبتّت فيها سرّا وأصدرت حكمها بالفصل، دون أن تمكّن المتّهم من أيّ حقّ من حقوق الدّفاع.

فهل يعقل أن تؤتمن مثل هذه القيادة على إقامة العدل بين أبناء الشعب في البلاد لو قدر لها أن تصل إلى الحكم؟؟؟


بالنّسبة للطّعن في شرعيّة مؤسّسات حركة النّهضة وفي شرعيّة قيادتها يؤكد صالح كركر بهدوء تام أن لا شرعيّة القيادة والمؤسّسات المنبثقة عن المؤتمر العام أمر مسلّم به لا يحتاج إلى تدليل. فالقيادة الحاليّة للحركة ومؤسّساتها لم يقع اختيارها بأكثر من خمسة بالمائة من أعضاء الحركة إذا أخذنا بعين الاعتبار الأعضاء المساجين والمفصولين والمستقيلين والمشردين في المهاجر والمغيّبين عمدا من طرف القيادة.

إضافة إلى ذلك الأساليب المتّبعة في تنظيم المؤتمرات التّحضيريّة للمؤتمر العام التي يقع فيها انتخاب أعضاء المؤتمر العام والتي لا تدعو القيادة للحضور فيها إلاّ الموالين لها وقلّة قليلة من المعترضين عليها لا يستطيعون أن يؤثّروا في قرارات تلك المؤتمرات التّحضيريّة شيئا. فكيف يمكن مع كلّ هذه التّجاوزات والممارسات أن يعتبر العاقل القيادة والمؤسّسات المنبثقة عن المؤتمر العام المنظّم بهذا الشكل قيادة ومؤسسات شرعيّة؟

ويذكر صالح كركر أنّ هذه القيادة هي بالفعل غير شرعيّة وهي من جهة أخرى قيادة قد تجاوزها الزّمن وقد غدت منذ مدة طويلة عقبة كأداء أمام تطوّر الحركة وتخلّصها من مختلف سلبياتها ومن الصعوبات التي تعترض سبيلها. فهذه القيادة حسب رأيه قيادة عاجزة ضيّقة الأفق معدومة الطّاقات جنت على الحركة الكثير وهي لا تزال تجني عليها وتعيق مسيرتها. ومن الواجب أن تستقيل هذه القيادة وتريح الحركة من سلبيّاتها المتعدّدة وتفسح لها المجال بذلك للنّهوض بنفسها واختيار قياداتها المناسبة ومواصلة الطريق بشكل بنّاء وسليم يخدم مصلحة الحرّيات الحقيقيّة والدّيمقراطية للجميع في البلاد.

أمّا حول مسألة حلّ الحركة لنفسها فيذكر صالح كركر أنّه ذكر ذلك في إطار مشروع أوسع متكامل ومتناسق. يذكر أنّه اقترح أن تحل الحركة نفسها أي أن حلّ الشّكل التنظيمي الذي هي عليه ماضيا وحاضرا لتتشكل ضمن حركتين. حركة ثقافيّة وفكريّة ودعويّة ووعظيّة واجتماعيّة على أسس تنظيميّة مغايرة تماما ومعلنة في كلّ تفاصيلها وتكون جزءا من المجتمع المدني يقوم على خدمة الشؤون الإسلاميّة البحتة بعيدا عن أي مشاركة في السّباق على السّلطة.

أمّا الحركة الثّانية فيرى صالح كركر أن تكون حركة سياسيّة عصريّة قائمة على برامج عقلانيّة وعلى مؤسّسات عصريّة، مثل كلّ الأحزاب السياسيّة في العالم الحديث. كما يمكن لكلّ من يريد من ذوي القناعات الإسلاميّة الالتحاق بأيّ حزب من الأحزاب السياسيّة القائمة في البلاد ممّن يأنس في التّفاعل مع مبادئها وبرامجها. وهذا هو الوجه الصحيح لوضع حدّ نهائي لاحتكار الصفة الإسلاميّة من قبل الحركة في البلاد وتوظيفها للمسألة السياسيّة في إطار السّباق على السلطة. وهذا من جهة أخرى يضع حدّا للازدواجيّة المقيتة التي قسّمت المجتمع التونسي إلى جزئين متعارضين، إسلامي وغير إسلامي، ويفسح المجال للمجتمع بأسره أن يتطوّر بهدوء وموضوعيّة وواقعيّة في اتجاه معتقده ودينه ويتصالح كوحدة مع ثقافته وهويّته.

وفي العموم فإنّ ما تراه قيادة الحركة كأخطاء فادحة فصلت بموجبها صالح كركر من الحركة التي ساهم هذا الأخير في تأسيسها بقسط وافر، يراها صالح كركر أمورا ملحّة في منتهى الإلحاحيّة من أجل التّجديد والنّهوض بالإسلام وبالسّياسة معا في البلاد.

فهل سيضع قرار الفصل هذا حدّا لهذا التّوجه ويعيق مسيرته، أم على العكس سيزيده زخما وسيدفع بالكثيرين إلى الالتفاف حوله؟ إنّ مستقبل الأيّام هو وحده الكفيل بالجواب الصحيح على هذا التّساؤل.

لكن إلى جانب ذلك هناك ثوابت لا بدّ من التّذكير بها.

أوّلها أن الممنوع هو دائم مرغوب فيه. وقد ساهم المنع والمصادرة على مرّ التّاريخ وفي غالب الأحيان في مزيد الرّواج للفكرة الممنوعة والمضطهدة ولأصحابها، خاصة إذا كانت الفكرة إيجابيّة بنّاءة مندرجة ضمن سنّة التّطوّر والتّجديد التي يقوم عليها الكون وحركة التّاريخ فيه.

أمّا الثابتة الثانية فتتمثّل في كون صاحب الفكرة الجديدة هو دائما في موقع الهجوم بينما المصادر لها والمضطهد لأصحابها هو دائما في موقع الدفاع.

وقد علّمنا التّاريخ أنّ الحروب غالبا ما تحسم لصالح المهاجم حيث يصعب للمدافع أن يربح حربا تدور رحاها على أرضه.

ومن تلك الثّوابت أيضا يمكننا أن نذكر أن البقاء في عالم الأفكار، كما في عالم الأحياء، هو في الغالب لصالح أكثرها وضوحا وواقعيّة واستجابة لمصالح الخلق.

وهكذا فإنّ مسألة فصل صالح كركر عن حركة النّهضة ليست مسألة تنظيميّة تافهة ولا هي مسألة صراع بين شخصين على زعامة حركة ولا هي أيضا مسألة تكتيك سياسي افتعلته الحركة لقضاء بعض المآرب السياسيّة كما يروق للبعض أن يتخيّله. إنّما هي مسألة جوهريّة في منتهى الدقّة والأهميّة، هي مسألة صراع طبيعي ومنطقي بين التّقليد والجمود والانغلاق من جانب وبين التّجديد والإبداع والمرونة والتيسير على الخلق من جاب آخر.

وإذا فهمنا المسألة على هذا الأساس فيصبح بذلك الطريق في هذه المسألة واضحا أمامنا، وكذلك لمن من كلا الطرفين ستكتب الغلبة في النهاية، وهنا لسنا نتكلم على مستوى الأشخاص والأفراد وإنّما على مستوى أهم بكثير، على مستوى الأفكار والتّوجّهات. إلاّ أنّ حصول ذلك سوف لن يكون هيّنا.

ويؤكد صالح كركر تمسّكه بالإسلام كمعتقد ودين للشّعب وكنظام أخلاقي وتربوي فريد في نوعه في بناء النّفس البشريّة الشفّافة والمستقيمة وكمصدر استلهام واستنباط للمجتمع بأسره في كلّ أوجه حياته إذا ما استعمل على أحسن وجه تلك الملكة التي خلقه الله تعالى بها وميّزه بها على بقية المخلوقات، ألا وهي العقل.


جمع من أعضاء فضاء الحوار من أجل الحريات والديمقراطية في تونسالذي يقوم بتنشيطه صالح كركر